الاثنين، 18 مايو 2009

ذات النمله



جلس علي حافة النهر مسندا ظهره إلي شجرة الجميز العتيقه ، عيناه تراقبان تلك النمله ، رحلتها عبر جزع الشجره الملتف لم تتضح ، تسرع صاعده ، ثم لا تلبث أن تغير وجهتها ، شعر وكأنها تقوم بعملية تمويه، لم يعرف وجهتها بالضبط ، تسرع ثم تبطئ ، ظل علي حاله يراقبها ، مالت الشمس للمغيب ، وهو جالس القرفصاء و رأسه بين ركبتيه ، غلبه النعاس ، أفاق علي لدغه برقبته ، صرخ وهو يتحسس مكان الألم ،، شعر بها تسقط حين لامست يده رقبته ، ركض عائدا إلي البيت ، وعيناه دامعه من شدة الألم ،

صرخت أمه حين لمحته وقامت لتحتضنه ، أجلسته في منتصف الحجره ، ظلت تتمم بكلام مبهم وهي تدور حوله وحلقات الدخان المنبعث من المبخرة التي أحضرتها تكاد تخنقه ، في اليوم التالي لم تسمح له بالخروج للمدرسة ،عيونهم هي التي أصابتك بما أنت فيه ، لم يكن يلتفت لكلامها أو يفهم معناه لكنه كان سعيدا لأنه لن يذهب للمدرسة ، وسيريح نفسه من عصا أستاذ اللغة العربية ، خوفها المرضي عليه وإيمانها المطلق بالحسد وعيون الناس التي لا ترحم ، انتقلا إليه مع مرور الأيام ، كان كلما مرض يسرع إلي الرقية سواء أكان مرضه بسبب فيروسا أصابه أو بسبب العين ، وحين لا يتم الشفاء يرجع الأمر برمته إلي قوة عين الحاسد وشدة شره ،

مرت أيامه بين خوف أمه المرضي عليه من العين وبين تفوقه وعبقريته التي بدأت تتضح معالمها وهو يحصد جوائز التفوق ، وتنشر صورته في الصحف كأحد النابغين عن بلدته
، بنيته التي لم تكن قوية بطبيعتها ، أرجعتها أمه لعيون الحاسدين ، أما هو فقد كان شغله الشاغل كتبه ، ودراسته وحلمه بأن يصبح طبيبا ، لذا لم تكن شهيته لغير العلم تميل ، وكان لهذا أبلغ الأثر علي ضعف بنيته الجسديه وصحته ، وتعرضه للمرض في كثير من الأحوال ، لكن لم يمنعه هذا من التفوق والإلتحاق بكلية الطب كما كان يحلم.

حين عاد أول مرة من الكلية أستقبلته كعادتها بالبخور والتعاويذ ، كان مشوشا مما رأي في يومه الأول شباب وفتيات يتحدثون ويتصافحون يمزحون ، كانت صدمة أن يري هذا الأختلاط والتبرج من بنات كان يفترض بهن أنهن ذاهبات لمحراب العلم وليس لأحد الأعراس ، نشأته الريفيه المحافظة ، وحديث أستاذ اللغة العربية الذي كان أمام مسجد قريتهم في نفس الوقت ، يرن في أذنية ، لقد صدق الشيخ أقترب يوم القيامه ، سمعها تحدث والده : الولد راجع لونه مخطوف وعيونه مزغللة ، عيونهم ربنا يستر عليه ، أنا رقيته اليوم قبل ما يخرج وأول ما دخل ، تبسم وهو ينصت من حجرته لكلامها الذي يقطر حبا ، كما هي دوما معه ،

كان تكيفه مع زملائه بطيئا ، لكنه بدأ يتعود ، دماثة خلقه وإستقامته كانا السبب الرئيس في تكوين صداقات كثيرة ، وسرعان ما إنقلبت صداقته بإحدي زميلاته إلي علاقة حب ، تبدلت حياته على أثرها بشكل كامل ، لم يكن يتصور أن خفقان قلبه سيبدل حياته بتلك الصورة ، أصبح يمضي معظم أوقاتة بالجامعة وهو الذي كان يسارع بالعودة فور إنتهاء محاضراته ، أصبح أكثر هدوء وأقل كلاما ، سعادتة التي باتت واضحه علي ملامحه ، لم يكن يكدرها سوي أسئلة أمه المتكررةعن سبب إنشغال باله ، وقلقها من ضعف شهيته وسهادة الدائم ، حاول مره أن يحكي لأمه عنها لكنه تراجع فهو يعرف حق المعرفة ولهها عليه وخوفها المرضي من بنات البندر ولؤمهن ،

مرت أيام سعادته سريعه ،وبدأت الخلافات تدب بينهما ، إختلاف الطباع والبيئة التي إنحدرا منها ، كانت السبب في إفتراقهما ، حاول أن يتماسك ، لكنه لم يستطع ، أصيب بحالة حزن شديده ، أمتنع عن الذهاب للكلية ، وعبثا حاولت أمه معرفة السبب ، لكنها لم تتوقف عن إطلاق البخور في أرجاء المنزل ، ومواصلة رقيه بكل ما تعلمه من رقى ، كانت تمضي الليل باكية وهي تدعوا الله أن يحفظه من عين الحاسدين ،

أما هو فقد بلغ به الحزن مبلغه ، وضاق صدره وأصبح لا يخرج من حجرته ، يجلس ساعات محملقا في ركن الحجره بلا حراك ، حين دخلت عليه أمه وجدته محملقا في زاوية الحجره وهو يبتسم ، إلتفتت ناحية الركن لم ترى شيئا ، أشار بيده في براءه وهو يهمس ، أتراها ذات النمله يا أمي ، لم تفهم قصده ، أخذ يدها وضعها فوق رقبته تذكرت ، لعله يعني تلك النمله التي لدغته قبل بضع سنينن ، تبسمت وهي تربت علي كتفه بسعادة وصوته يداعب سمعها بعد صمته لعدة أيام ، خرجت تعد له الطعام ، أما هو فتابع محاولات النمله للصعود من جديد .

عاد لدراسته بقوه ، وقد عزم علي إدراك ما فاته ، كان فشل تجربته دافعا قويا ليحقق نجاحا في دراسته ، لقد تعلم من تجربته جيدا فأعطى كل وقته لدراسته ، وتلاحقت الأيام سريعا ، لتظهر نتائج الامتحانات ويكون هو أول دفعته ، لم يتفاجئ فقد كان إجتهاده واضحا ، أما أمه فقد أكدت عليه مرات ومرات ألا يذكر أمر تفوقه لأحد في البلدة ، وهمست وهي تؤكد وصيتها له عند خروجه يا بني كل لعيون عليك ، داري علي شمعتك يا ولدي ، كان دوما يبتسم وهو يستشعر فيض الحب الذي تغمره به ، فيكب علي يدها يقبلها ، وهي تمتم بالدعاء له ،

بات هدفه واضحا ، وقد وضع نصب عينيه الحصول علي شهادته بتفوق يتيح له أن يصبح أستاذا جامعيا ، وعمل علي تحقيق هذا بكل جهد ، مرت سنواته الثلاث وهو يحقق ما تمناه من تفوق جعله محط أنظار زملائه ، والكل يرشحه دوما ليكون الأول ، في بلدته بدأ البسطاء من الأهالي يلجؤن إلي الدكتور كما كان الكل يناديه ، رغم إنه لازال يدرس ، ولم يكن ليرد أحد ، مما جعل الجميع يلتف حوله بحب ، ويتمني له الخير ، لكن أمه لم تقطع عادتها في الرقية اليومية له ، وكان هو يتقبل هذا الإهتمام منها بسعادة ورضا ،

قبل إمتحاناته بعدة أيام أصابته حمي شديده ، أستمرت معه لفتره ، ومنعته من خوض الإمتحان ، وأصابت أمه بالحزن الشديد ، جزعا عليه ، وحزنا علي ضياع جهد عام من المذاكرة والسهر ، لكنها كفكفت دمعها حين رأته بدأ يتعافي ، وظلت ترقيه وهي ساهرة بجواره وتطمئنه بأن الله سيعوضه خيرا ، لكنه كان يشعر بحزن دفين وهو يرى حلمه وقد تباعد ، كانت يد أمه تمسح علي رأسه حين صرخ متألما ، رفع يده إلي رقبته ، حين تفحصت رقبته تبسمت وهي تربت علي رأسه وتهمس إنها مجرد لدغة نمله،

في نفس الموعد من السنه التالية ، أصابته الشقيقه ، أصبح ألم رأسه لا يطاق كلما حاول الدرس والإستعداد للإمتحان ، ذهب إلي الطبيب لم ينتهي شقاءه ، حارت أمه ، أقنعته بأن يذهب معها إلي أحد المشايخ ليرقية ، لم يجد بد وقد ألمه رأسه بشده وأصبح لا ينام ، لكن الألم أشتد ، ولم يفلح معه أي دواء أو رقيه ، كان قد بدأ يتسرب إلي نفسه الشك في أمكانية تحقيق حلمه إنها السنه الثانيه ، فكر أن يترك الكلية ، ربما هي عين أصابتة ، فما الداعي للمكابرة ، لكن أليس هذا حلم أمه أيضا ، كيف سيخبرها ؟ وهل إذا ترك الكليه ستنتهي مشاكله ؟ لم يعد قادرا علي التفكير،

في صبيحة اليوم التالي وجد أمه بجواره ، تبسم في أسى ، ربتت علي صدره وهي تدعوه ليقوم من سريره ويصطحبها ، خرجت به من باب الدار ، أوقفته في مواجهة شجرة عتيقة ، نظر إليها في تعجب ، سحبته من يده جهة الشجرة ، إنحنت علي جزع الشجره وهي ممسكة بيده ، نظر فاذا بنمله تحمل فوق ظهرها أكثر من حجمها ، وتتسلق الشجره صاعدة ، سقط الحمل إلي الأرض ، عادت مسرعة لتحمله ، سقط ثانيا عاودت الكرة ، نظرت أمه إليه بحنان ولم تنبت ببنت شفة ، تبسم وهو يقبل جبينها ويحيطها بذراعيه ،

حين عاد حاملا لشهادته ، وجدها في إنتظاره لترقيه ، جلس هادئا وقد بدأت تتمتم بأدعيتها ورائحة البخور تلف المكان ، قبلت رأسه في حنان وهي توصيه بأهل بلدته ، قبل يدها قبل أن يقوم ليصلي ركعتين شكر لله ، رمقته بحب وهي تحضر له طعامه ، حين رفع من سجوده شعر بدبيب علي رقبته ، مد يده أمسك بها ، بعدما إنتهى من صلاته ، أفلتها من بين أصابعه علي كف يده ، نظر إليها في حيرة ، أيطلقها أم يفركها بين أصبعيه فيقتلها ، كانت تتحرك علي كف يده في حيرة ، تناهي إلي سمعه صوت أمه تناديه ، وضع يده علي الأرض ، أسرعت هاربة ، أما هو فقد شعر براحه وهو يتجه صوب صوت أمه ملبيا ندائها .

تمت

هناك تعليق واحد:

  1. رائع انت يانبوى

    النمله هى المغزى والمحرك له

    الصمود ال>ى اكتسبه منها مقاومة الم الحب كان كمقاومة الم القرصه مع الفارق

    اجدت الرط بين علاقة الابن والام والمستقبل

    التحرر من سيطرة اى شىء يعود فضله للصمود وللنمله

    اشكرك

    مجرد حُلم

    ردحذف